مذكرات

رسالتي لك آورهان

أبحرت في فصول كتاب آورهان باموق ، ”  أسطنبول الذكريات والمدينة ”  فحرضتني حروفه على الكتابة عني وعن مدينتي . هذه رسالتي له.


 

عزيزي آورهان ،

قرأت عن مدينتك الحزينة باهتمام ، هبطت في مطارها يومًا ما ، كنت متعبة مثقلة ، ولكن الهبوط في مدينتك كان جميل. هبوط مختلف تمامًا فكانت هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها مدرج مطار على شاطئ البحر. أنا مثلك لدي مدينة لأحكي عنها ، بل ثلاث مدن عشت أيامي بينها . سبع سنوات من عمري حيث ولدت في الرياض ، أغلب سنوات عمري التي تلتها في جدة . سنة ونصف في بريطانيا، وأوقات كثيرة متفرقة من حياتي في مكة . عن أيمدينة سأحكيك أو عني وعن حزني وأحلامي؟ .

 

ولدت مثلك تمامًا في حياة مترفة ، أبصرت عيني ودرجت في فيلا يمتلكها والدي في حي الروضة . لدي مكان لكل شيء وفناء واسع للعب والمشاركة مع الأقارب والجيران . كنت أبكي في السنة الأولى دراسيا بالرغم من أني كنت أدرس في مدرسة أهلية مترفة،  كان يأتي الباص ليأخذني مع أختي ، كانت العاملة في المنزل تشجعني على ترك البكاء وركوب الباص ، حيث تستقبلنا المربية مع السائق ، وهما كانا ضيفان في منزلنا يوم ما ، كنت اشتاق لسريري ولكن حين اندمج في الجو الدراسي أنسى هذا كله . كانت المديرة تزين جبهتي بالنجوم ، هذا الشيء الوحيد الذي أتذكره ، وأني درست بين فصلي أبلة أمل وعزيزة، لا أكثر . لا أملك ذاكرة حديدية مثلك ، تتسرب الكثير من الذكريات مني ولكن لن أنسى أن اليوم الذي أعلن فيه والدي رحيلنا عن تلك المدينة ، هو اليوم الذي كتبت فيها أول صفحة حزن لي. غادرت المدينة المبهجة جدًا والحياة المترفة جدًا . لم أكن أعرف سوى اللعب في الحدائق والمدن الترفيهية وزيارة الجيران وحضور احتفالات وإجازة قد نقضيها في شاطئ المنطقة الشرقية أو قد يزورنا فيها الأقارب.


في جدة حياة مختلفة وجو مختلف تمامًا ، وحتى مفردات مختلفة . فالقلم الرصاص مثلا تحول إلى مرسام ، البنسه إلى طوقه ، الطرحة إلى مسفع ، أخذت وقت لأتعود على نطق الأشياء مثلهم في المدرسة . تحولت إلى مدرسة الـ 91الحكومية هي الأقرب على منزلنا على بعد مسافة قصيرة ، هناك يا آورهان المدارس بالأرقام وليس الأسماء من الشمس الأهلية إلى 91 الحكومية. كانت الخيار الأمثل لأنها الأقرب . لم أكن أحب حصص الرياضيات والقواعد فيها . لأن كل مدرسة لها ابنة مدللة في الفصل. كانت هي الأشطر والألطف والأحب. كنا نحن البقية الباقية الهامش في الفصل. انتقلت لـ 37 المتوسطة ثم الـ 47 الثانوية . كانت أيامي فيها أسعد . كنت أتعلم على درب التفوق خطوة خطوة . كل سنة انتقل لمرتبة أعلى من التاسعة على المدرسة في المرحلة المتوسطة ، للأولى في الصف الثالث الثانوي. أريد القمة ، أليست القمة هي من تجلب الحب والاحترام؟ أليست هي من ستشعرني بالزهو ؟ . في مرحلتي المتوسطة والثانوية كنت الطالبة المثالية ، كنت أصدم حين يتم ذكر أسمي في الطابور الصباحي ! ماذا أنا كنت أظن أني الطالبة المجهولة في هذه المدرسة لم أكن أعلم أن إدارة المدرسة كانت تعرفني جيدًا.

 

 

كان أبي يؤمن لنا كل مصادر السعادة ، يريدنا في المقدمة مثل أبيك تمامًا لذلك كل التقنيات الحديثة وكل جديد كنا سباقين إليه . حتى الحلوى كانت الفقرة الأمتع بين كل الأشياء في عمري الصغير . لم أشعر بالسعادة في مدينتي الثانية ، كنت دائما تواقة للحب الأول – الرياض- . زيارات الجيران تقلصت ثم تلاشت ، البحر الملاهي كل شيء كان يشعرني بالسعادة بدأ يتقلص ، أغلقت المدينة الترفيهية التي كان والدي يدعونا للعشاء فيها ، في مكان يطل عل البحر. البحر حين بدأت أحبه ، قلصوا كل مساحاته وتحول لملكية خاصة ومطاعم وكبائن وأماكن مغلقة . أحببت البحر حين كان عام مفتوح واسع للجميع ، لاحين تقلص وتحدد وتكاثرت على الضفة الأخرى الكثير من المباني الشاهقة . لم يعد للبحر بهجته ، غبت عنه كثير بل هجرته . لاشيء مثير للدهشة .

 

عن مكة أتحدث؟ ماذا سأقول؟ السؤال الأكثر شيوعًا لدى أقاربي : هل تفضلين مكة أو الرياض  مكة أو جدة؟ كنت أراوغ وأغير إجابتي كل مرة : نعم الرياض ، نعم مكة لأن فيها الحرم ، نعم جدة لأن فيها البحر. آه كنت أخفي دائما الحب الأول الذي أكن له وفائي. مكة كانت هي المصيف المؤقت لنا في كل إجازة .لي فيها ذكريات طفولة في المسفلة كنا نلعب مع الأقارب في مساحة رملية أمام منزلنا . كنا نمتلك مساحة عائلية جميلة كل سكان القطعة هم الأهل. كنا نلعب بالتراب واللعبة الأمتع كانت ” البربر”. كان اللعب في المساحة الخارجية هو الخيار الوحيد. وحين كنا نزور بيت خالتي سيرًا على الأقدام ، كانت هناك بهجة أكبر نلعب كل الألعاب طش ، طيرة ، نط الحبل ، كرة قدم ،الضيوف . لعبة الضيوف كانت هي الأمتع ، نستخدم كل الأدوات المطبخية البلاستيكية المصنوعة للأطفال لنقدم فيها المشروبات الغازية والحلويات والشيبس. كبرنا وكرهنا لعبة الضيوف ، لعبة شاقة . بعض الألعاب لم أكن ألعبها إلا في المنزل مثل الغميضة – لها خصوصية مع أخوتي – .مع الوقت كنت أجد لألعابي الخاصة متعة أكبر . في الوقت الذي كانت فيه أختي تستمتع بمتابعة الطريق إلى افينيو ، كنت أستخدم خيالي الخاص وعرائسي لأصنع منها مسلسلي الخاص . لي حق التعبير والاختيار . خيالي يصحبني إلى آفاق واسعة جدًا . أخيط الملابس للعرائس ، استعين ببعض مكملات الألعاب ، أصنع بيوت وعائلات وحياة ، أيام سعيدة وتعيسة . تطورت هوايتي وأصبحت أكتب فصول مسلسل أبطاله أناس حقيقيون في خيالي ، كل يوم قبل النوم أكتب فصل في ذاكرتي . كانت متعتي الأكبر ، مثلك تمامًا آورهان . كنت أصنع من كل مهمة متعة فكنت أحترف التزلج في الحمام – أكرم الله القارئ – نعم كنت أتزلج بين الصابون والكلور وأعمل في واجبي المنزلي، وكنت كثيرًا ما أتخيل المطبخ مطعم فأبيع  أكياس الطماطم المعصورة باهتمام شديد وأشكو من الزحام فانتهي من عملي بسرعة . كنت أتخيل أني أقدم برنامج للطبخ وصنعت كيك بالشوكلاه لأول مرة في المتوسطة ، مللت من الخبز فأسرعت وقدمته لأخي تناوله وجاملني، هناك ماء في الكيك لم يكترث !

 

لن أضيف الكثير يا آورهان عن مساحات الحزن في مدينتي ، هناك الكثير لأقوله سأقفز من الأمس لليوم لأقول لك مدينتي جدة غرقت وتغرق ، الغرق دمر فيها الكثير، الحرائق تشتعل في التاريخ ! هل تصدق المباني الأثرية تزول بحرائق وتنتهي معها حقبات تاريخيه هامة؟ . آورهان حتى حديقة الطفل المثالي الصغيرة المتواضعة ، مررت منها من أيام تغير اسمها لحديقة الهندسة ، لم تعد مبهجة . أما في مكة فناطحات السحاب ، نطحت المباني القديمة . هجرت أهل الحرم وأغنتهم بالملايين . لازلت هناك ذكريات يمكنني اللحاق بها وتصويرها كدكان أبو سوسن الذي كنا نزوره باستمرار لشراء العصرية ونطلب منه الوصاية ، كان كريم بشكل مثير للاهتمام كما هم أهل الحرم وجيرانه. للأسف آورهان لم أكن في يوم من الأيام أجيد الرسم . مدرسة الرسم في المتوسطة لم تكن تعطيني درجة مبهجة لأني لا أمتلك الموهبة ، الموهبة لا توهب الموهبة بل تولد مع الشخص . حتى في التفصيل لم أكن مجيدة، لم أكن أعرف سوى غرزة واحدة فقط والبقية أحاول فيها أطلب من أمي أو أختي أو أخطفها من كراس أختي القديم ، أبالغ في تزيين الأطراف والخلفية وأنسبها لي! ، قميص الطفل الذي فصلته في الثانوية قمت باستخدام الغراء في أطرافه لا الخياطi ، أبهج الأستاذة كثيرة الفستان واحتفظت به 🙂 ، كنت أتخيل منظرها حين يزول الغراء وتكتشف غياب الخيوط !.

 

هل أتحدث عن كولشستر؟ هي ليست مدينتي ولكن دائما كنت أقول هي لي وطن . لن أتحدث عنها ولكني أحبها كثيرًا ، كل كلمة عنها تثير حنيني ، كل الصور تذكرني بأيامي فيها . آورهان أنت سببت لي الكثير من الألم لأن مدينتي لم يُكتب عنها الكثير، بالرغم من أنها تشكل خليط حضاري إنساني متنوع أكثر من أي مكان آخر . مدينتي تجمع الناس من كل مكان في العالم واستوطنها أناس من الشرق والغرب . ينظرون لهم بنظرة دونية يا آورهان لأن أعراقهم ليست صافية ، يقللون من شانهم ، وهم الذين رفعوا من شأن المكان الذي يعيشون فيه والأرض التي ولدوا فيها. ليس من حقي أن اثرثر أكثر ، سأصمت عن الكلام المباح لأن مساحة الألم كبيرة . شكرًا للمتعة والألم آورهان .

سمر

تعليقان

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *